لاهور
مدينة المغول المسورة

«لا تصفق لي، ولا تنبهر بكلماتي، فلست أنا الذي أتحدث، إنه التاريخ الذي ينطق ويستصرخ عبر فمي»، بمثل كلمات المؤرخ الفرنسي تيوما دينيس تحدثت مدينة لاهور القديمة عن تاريخها، وعن عظمة من بناها. فعندما تزور هذه المدينة ترى في ملامح وجوه أهلها فخرًا وهم يستعرضون الإرث الكبير الذي تحتضنه أحياؤهم، لكن الجبين ما يلبث أن يقطّب ويعبس حين تدار دفة الحديث للواقع المهمل، ولهذه الحضارة الآيلة للاندثار.

سارة بدير

لاهور تُعد ثاني أكبر مدينة في باكستان بتعداد سكاني يبلغ 10 ملايين نسمة، وهي عاصمة إقليم بنجاب. وقد ذكرت في مخطوطات قديمة لرحالة صيني تعود للقرن السابع قبل الميلاد، وأشار إلى أن الإغريق وقبائل أخرى متعددة كانوا قاطنيها.
انضمت لاهور إلى كنف الحكم الإسلامي حين فتحها محمود الغزنوي في القرن الرابع الهجري وأصبحت عاصمة للغزنويين، وعملوا بعد ذلك على توسعتها عمرانيًا. ثم أصبحت لاهور عاصمة للمغول الذين تولوا حكم البلاد بعد زوال حكم الغزنويين، وتركوا فيها بصمة حضارية وإرثًا تاريخيًا وعمرانيًا لا يقدر بثمن. الجزء الأكثر قِدَمًا من لاهور ذو الألف خريف أو يزيد يسمى بالمدينة القديمة المسورة أو أندرون شهر. تبلغ مساحتها 256 هكتارًا، وتعدادها السكاني يزيد على 200 ألف نسمة. تشير السجلات التاريخية إلى أن المدينة اكتشفت قبل 4000 سنة.

لاهور المغولية
أحيطت المدينة في زمن المغول بسور له ثلاثة عشر بابًا ضخمًا وهي: لاهوري، تاكسالي، روشياني، ماستي، كاشميري، شيران ويلا، ياكي، دهلي، أكباري، موتشي، شاهالمي، باهاتي، موري. لكن هذا السور المغولي الحامي قد نالت منه يد المحتل البريطاني في فترة الأربعينيات، ولم يبق من الأبواب صامدًا في وجه الدمار إلا ستة أبواب، لكل باب حكاية. فعندما ننتقل من باب لآخر لا يتغير اسم الباب فقط، بل يتغير نمط حياة الناس، وكأن هناك ثلاثة عشر شعبًا مختلفًا يعيشون داخل إطار مدينة لاهور القديمة.

بوابة لاهوري
أقدم الأبواب جميعها. ما إن تطأ قدم الزائر هذا الحي، حتى يغمره السكان بروحهم الإيجابية العالية، ورغبتهم في الاحتفال بنعمة الحياة كلما أشرقت الشمس على أرضهم التي قاست الكثير من الحروب والقلاقل. يظهر هذا في مقولة منتشرة بينهم: «دع الألم في الخارج، وعد لمنزلك سعيدًا».
هناك معالم تاريخية عديدة لا يعرف عنها من هم خارج لاهور، مثل منزل السيد جانجا رام وهو مهندس مدني عاش في العشرينيات وأفنى حياته لخدمة الشعب، وله مدرسة ومستشفى ومتحف وعدة كليات حتى أطلق عليه لقب «أب مدينة لاهور الحديثة». كذلك يوجد منزل حفيد العلامة محمد إقبال، يوسف صلاح الدين. لا يعرف هذا الحي السيارات، فالدراجات هي الوسيلة الأكثر انتشارًا للتنقل، والأنسب للعبور بين الزحام الشديد. يُظهر البنيان المتهالك تفاصيل تصاميم عمرانية مميزة، صمدت على مر القرون فوق شوارع الإسفلت المتصدعة، وبالحي قصر مغولي قديم متهالك.

بوابة تاكسالي
هي منفذ المدينة القديمة الوحيد لجهة الغرب. حال هذا الحي يشبه الزهرة المتفتحة الآخذة بالذبول.
بوابة تاكسالي كانت منذ زمن غير بعيد محضنًا للفنون الشعبية وتقاليد الرقص والغناء، إلا أن أصحاب هذه الفنون بدؤوا يبحثون عن مكان أكثر سخاء بالأموال لتقديم عروضهم الشعبية. وبدأت مدينة لاهور تفقد بذلك قيمتها الفنية شيئًا فشيئًا.

بوابة روشياني
صمم الباب قديمًا بشكل مرتفع ليسمح للفيلة بالعبور، روشياني تعني الضوء، حيث كانت البوابة تُضاء حين يأتي أحد الأمراء للزيارة، هي البوابة الأكثر صمودًا تجاه تغيرات الزمان، ويبدو الحي أكثر تحضرًا من غيره.
من معالمها مجلس العلامة محمد إقبال، كما يضم حي روشياني مسجد بادشاهي الشهير والمبني في عام 1673 للميلاد، والذي يعكس حضارة المغول المعمارية.
بوابة ماستي
سميت بماستي نسبة إلى الحارس الذي كان يقف عليها. تعكس هذه المنطقة الطبقية في الشارع الباكستاني حيث تجمع بين أصحاب الأموال الطائلة، وبين من لا يجد رغيفًا ليسد رمق جوعه.
يوجد خلف البوابة أقدم مسجد في المدينة، وهو مسجد مريم زماني الذي بني عام 1614، وما زال قائمًا بزخارفه المميزة، وبها سوق كبيرة للأحذية «موتي بازار» تزينها عمدان تشبه أعمدة روما، وتعرف هذه المنطقة بألعاب المصارعة كجزء من التقاليد.

بوابة كاشميري
سميت بذلك لأنها مقابلة للطريق المؤدي إلى كشمير. هناك أحياء تعيش بها الأسرة بأكملها في غرفة واحدة وفي مقابلها أحياء يجري بها المال جريان الماء! توجد بالحي مدرسة تعليمية للبنات في المراحل العليا، وهي الوحيدة في المنطقة.
بوابة شيران ويلا «خزري»
تقول بعض الروايات التاريخية إن نهرًا كان يمر من أمام البوابة إلا أنه جف مع الزمن. هي منطقة مكتظة، بها العديد من المدارس والأسواق، ما دفع بعض السكان للرحيل وترك منازلهم للتجار من بعدهم ليقطنوها. يقوم التجار بهدم المنازل القديمة وبناء محالهم دون الالتفات لما تحمله من تراث، متجاهلين القرار الصادر عن الحكومة الباكستانية بالمنع. إن السير في حي شيران ويلا ماتع لكن محزن في الوقت ذاته، فما طمس من حضارات ليس بالأمر الهين.

بوابة دهلي
تفتح البوابة ذات المدخل الأكبر للمدينة القديمة باتجاه مدينة دهلي التي كانت مقر حكم المغول. في دهلي سوق شعبية تنبض بالحيوية والبضاعة المتجددة، كما ينتشر الباعة المتجولون في كل مكان. في الحي سوق للأحصنة حيث كانت في السابق الوسيلة الرئيسة للتنقل. من معالمها، مغتسل شاهي حمّام الكبير المبني على الطراز المغولي، ورغم أنه لم يعد يستخدم للاغتسال إلا أنه ما زال قبلة للسواح. يحاط شاهي حمام بـ42 محلاً تجاريًا،

بوابة أكباري
سميت نسبة إلى أحد أشهر أباطرة المغول جلال الدين محمد أكبر. هدمت البوابة على يد البريطانيين وما زال الدمار يلحق بها يوميًا. يشعر العابر بهذه القرية بالتلوث الشديد الناجم عن اتساخ المكان بروث الحيوانات، إضافة إلى ذبول النباتات والمحاصيل.

بوابة موتشي
بنيت هذه البوابة علي يد إمبراطور المغول أكبر وهدمت في زمن الاحتلال البريطاني وبيع الطوب المبني منه. شهد هذا الحي إلقاء بعض الخطابات التاريخية المهمة في ساحة موتشي باغ. في موتشي تجتمع عدة آثار، كمسجد محمد صالح كمبوه المتميز بقبابه الثلاث والمبني عام 1659 في زمن الإمبراطور شاه جاهان، وقصرين للمغول مبارك حولي، ونسار حولي بعمر يناهز 800 سنة.

بوابة شاهالمي
سمي الباب على اسم أحد أبناء أباطرة المغول بعد زيارته للحي. عرف شاهالمي بسوقه الكبيرة، إلا أنه تعرض للحرق الكامل عام 1947، قبل أن يقوم السكان ببناء سوق شعبية كبيرة أخرى بها كل شيء من مواد التجميل إلى الإلكترونيات، وبنوا سوقًا للذهب وثالثة لصناعة الأواني الفخارية أيضًا. تعد شاهالمي مركزًا تجاريًا، ما جعل الزحام شديدًا بشكل يومي.
يبرز بالمنطقة مسجدان أحدهما يقع على مسافة 13 قدمًا تحت سطح الأرض. بعض المباني تعود لعام 1805، وبالحي قصر كبير للمغول كان يستضاف به الوزراء، إلا أن جزءًا منه تحول إلى مدرسة، وجزءًا آخر هُدم لتوسعة السوق،

بوابة باهاتي
سميت نسبة إلى إحدى القبائل التي سكنت المنطقة قديمًا. هذه المنطقة تعرف بتميز طعامها، وبخاصة الحلويات الشعبية. عاش فيها العلامة محمد إقبال، وما زال منزله قائمًا إلا أنه يؤجر كغيره من المنازل دون الاكتراث لما بداخله من إرث العلامة. في هذا الحي قصر من القرن الثامن عشر تحول لمتحف «فقير خانا» والذي يحوي أكبر مجموعة خصوصًا في جنوب آسيا تضم 30 ألف قطعة أثرية، وبه مسجد كبير.

ترميم المدينة..
أيبقى وعدًا قيد الورق؟
في عام 2005، أعطت إحدى
الحكومات الأوروبية 1.6 مليون دولار لليونيسكو لرسم خطة ترميم للاهور القديمة وإعطائها لحكومة إقليم بنجاب لتنفيذها. وقدم البنك الدولي 10 ملايين دولار للحفاظ على حياة المدينة. قدرت الحكومة الباكستانية في عام 2007 احتياج لاهور إلى 20 مليون دولار لتقوم على قدميها من جديد. كما قدم اتحاد المعماريين الباكستانيين مشروعًا لترميم المنطقة في نوفمبر 2011. لكن الوعود بقيت كما توقع الأهالي قيد الورق، ولم يذق السكان منها شيئًا، فهل يصيب المعماريون الهدف هذه المرة؟